ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عودة، خدمة القداس في كاتدرائية القديس جاورجيوس، بحضور حشد من المؤمنين.
بعد الإنجيل ألقى عظة قال فيها: “يبدأ المؤمنون اليوم رحلة جهادهم، واضعين نصب أعينهم امتلاءهم، شخصيا، من قيامة المسيح الظافرة (رو ٦: ٥). نسمع في «صلاة الغفران»، التي تقام مساء اليوم، والمدعوة ترنيمة تحمل الموقف الإيماني الذي يسير بهديه كل مؤمن خلال صومه. تقول الترنيمة: «إن الرب جابلي، أخذ ترابا من الأرض، وبنفخته المحيية منحني نفسا وأحياني، وأكرمني وأقامني في الأرض رئيسا على جميع المنظورات، عائشا كالملائكة. فالشيطان الغاش استعمل الحية آلة فخدعني بالأكل، وفصلني عن مجد الله، وسلمني بالأميال السفلية إلى الأرض. لكن، بما أنك سيد الكل ومتحنن، استدعني ثانيا». لا يحمل هذا الموقف مجرد تندم سلبي، بل فيه توبة جريئة مبنية على إعادة نظر ذاتية وواقعية وموضوعية، يجريها المؤمن إزاء حالة الإنسان منذ السقوط، إنما برجاء واثق بحنان الله الذي لا يشاء موت الخاطئ بل أن يرجع فيحيا، تماما كالإبن الشاطر الذي وعى مأساته فعاد إلى أحضان أبيه. أما نص إنجيل اليوم، المدعو «أحد الغفران»، الذي نقوم فيه بالمغفرة والإستغفار، فيعلمنا، بالواقعية نفسها، قواعد عملية لإتمام الرحلة بأمان”.
أضاف: “القاعدة الأساسية لنوال المغفرة من الله هي: «إن غفرتم للناس زلاتهم». الصفح عن خطايا الآخرين هو المفتاح لاستجابة الله للصلاة بشكل عام، ولالتماس المغفرة منه تحديدا، ذلك أن الله الذي يشاء خلاص الكل، ويعطي بلا حساب، لا يستجيب لصلاة القلب المنغلق على الآخر، الذي لا يعرف المحبة. الإنسان مدعو إلى اعتماد الغفران مسلكا دائما في حياته، إلى أن يصبح بطبعه راحما وغافرا بلا جهد أو عناء. عندئذ، فقط، يمكنه التماس الصفح من أبيه السماوي، وأبوه سيعطيه ويجزل العطاء. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: «ليس فقط بالنعمة وحدها، بل أيضا بهذه الأعمال (أي بالصفح والغفران)، نصبح أولادا لله». لا شيء يجعلنا نشبه الله مثل استعدادنا الدائم لترك ما لنا على الناس، والصفح لمن أثموا إلينا، وفقا لما علمنا إياه الله عندما قال إنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين. حتى الصوم، أداة التنقية، لا يستقيم أو يؤتي ثماره إلا عندما يتنقى القلب، بواسطة الغفران، من أي حقد أو ضغينة، ويتقبل الآخر ويحتضنه، فيصير القلب خاشعا ومتواضعا، فلا يرذله الله (مز ٥٠: ١٧).“
وتابع: “يشير السيد، في كلامه على الصوم، إلى عيب كان يشوب صوم اليهود، وهو فخ من فخاخ الشرير لا يزال قائما. كان اليهود يصومون يومي الإثنين والخميس من كل أسبوع، وهذان اليومان كانا يومي السوق في أورشليم. هناك، كان المراؤون يظهرون بين الناس بثياب غير مرتبة، وشعر غير منسق، لكي يلاحظ الناس صيامهم، فينالون منهم مجدا وتكريما. كان التقى والنسك للناس لا لله، فيما يقول لنا الرب: «أما أنت، فإذا صمت فادهن رأسك واغسل وجهك لئلا تظهر للناس صائما». كلام الرب يسوع يؤكد أن غاية الصوم هي حصرا تنقية القلب، مركز الكيان، وأنقياء القلوب يعاينون الله. عدا ذلك، يصبح الصيام شكليا، بلا روح، يساهم في إبراز الأنا التي علينا أن نضبطها ونهذبها، كما يصبح تعبا يلد خطيئة، بدل أن يكون جهادا للتنقي منها. لقد أوصى الرب أن يدهن الصائم رأسه بالطيب، ويغسل وجهه، ما يرمز إلى الفرح والنقاوة. لذلك علينا أن نصوم بفرح ونقاوة وتواضع. بعدما تناول أصول الصلاة والإستغفار والجهاد في الصوم، أراد الرب يسوع بكلامه إبراز الغاية من هذه الركائز الثلاث، وهي رفع القلب المنقى إلى السماء ليعاين الله وينعم بالعيش في حضرته. لكنه حذر سامعيه من كنوز الأرض التي يفني التعلق بها ثمار الجهاد الروحي. كنوز الأرض ليست الماديات فحسب، بل كل ما هو من الأرض ويزول بزوالها. هذا يشمل أيضا استعراض الفضائل سعيا وراء المديح، ومحاباة الوجوه، والانزلاق في مهالك حكمة العالم التي لا تمت إلى حكمة الله بصلة. من يعمل للعالم ينال أجره من العالم، تاليا ليس له عند الله شيء. مأساة الإنسان أنه يشتهي ما لله وما للعالم في آن، وقد علمنا ربنا أنه لا يمكننا عبادة ربين، فإما العالم والمال والسلطة والمراكز، وإما التقوى والمحبة والتسامح والعطاء”.
وقال: “هنا يجب الإشارة إلى أنه، رغم الحب العميق الذي أعلنه، ويعلنه، الرب يسوع وكنيسته للعالم، تبقى للمسيحية تحفظاتها تجاه ما يختص بحال العالم وحياة الإنسان في هذه الأيام. عالمنا، في تعليم الكنيسة، هو «ساقط» ومبتعد بملء إرادته عن الحياة في الله خالقه. لهذا، يجب أن يكون همنا الأساسي في هذه الحياة أن نطلب «أولا ملكوت الله وبره»، أي أن نحدد أولوياتنا بوضوح، وأن نحصر «استثمارنا الروحي في الغاية الأساسية التي هي استعادة كرامتنا الأولى التي خصنا الله بها. ليت إنسان هذا البلد، والمسؤولين والزعماء والقادة بشكل خاص، يعون أهمية الإنعتاق من الماديات والإنصراف إلى تنقية النفس واليد من كل تعلق بالأشياء الزائلة لأنها فانية، وليس أبديا إلا وجه الله. لو تصرفوا على هذا النحو لكانوا وفروا على أنفسهم وعلى لبنان واللبنانيين مشقة الحروب والإنهيارات الإقتصادية والإجتماعية والأخلاقية، ولكانوا وفروا على بيروت وأهلها ما عانوه من نتائج تفجير المرفأ من مآس وآلام لن تمحى من ذاكرة بيروت والبيروتيين ليس لأنها مست قلب العاصمة وقلوبهم وحسب، بل لأنها بقيت دون محاسبة. فبعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على اليوم المشؤوم، ما زال المدبر والفاعل مجهولين، وما زال التحقيق معلقا والقلوب دامية”.
أضاف: “أملنا في بداية هذا الصوم المبارك أن تمس الرحمة قلوب من في يدهم القرار ويفرجوا عن التحقيق لكي تظهر الحقيقة وتسود العدالة. كما نأمل أن تمس الرحمة أيضا قلوب من يسلطون آلات الموت والدمار على رؤوس الأبرياء، وأن يتوقف القتال في منطقتنا وفي كل منطقة تجتاحها الحروب، وأن يعم السلام والمحبة والرحمة في كل العالم لكي ينعم الإنسان، حيثما وجد، بشيء من الطمأنينة تخوله الإنصراف إلى تنقية النفس والفكر والقلب والجسد، واعتماد التواضع الذي ميز العشار، والتوبة كالإبن الشاطر، والرجوع إلى الله والعمل بوصاياه، وإفراغ القلب من كل حقد وضغينة لكي يكون كنزه في السماء ويكون هو من المختارين”.
وختم: “دعوتنا اليوم أن نغفر لكل من أساء إلينا، مثلما علمنا الرب يسوع في الصلاة الربية، حتى نستحق أن نحظى بالغفران الذي يمنحه الله للغافرين، وبذلك نستحق أن ندعى أبناء لله”
Back to top button